تشكّلت قمة الخليج العربي منذ مطلع الثمانينيات كمنصة تاريخية تعمّق الروابط الأخوية وتؤسس لعمل مشترك يقوم على وحدة الهدف والمصير المشترك، وتستند إلى إرث طويل من التلاحم المجتمعي والتاريخي والثقافي الذي وحد شعوب المنطقة قبل نشأة المجلس ذاته، وأظهرت أن وحدة القرار الخليجي ليست استجابة ظرفية بل ثمرة وعي سياسي راسخ بقناعة أن الاستقرار والازدهار لا يتحققان إلا بتماسك الصف وتكامل السياسات.
تؤكد القمم المتعاقبة منذ تأسيس المجلس في 1981م على نهج ثابت يقوم على الحوار وتوحيد الرؤى ومعالجة التحديات الإقليمية والدولية برؤية مشتركة، وتبني سياسات متوازنة تحفظ الأمن والاستقرار وتعزز التنمية، ومع اقتراب القمة السادسة والأربعين في البحرين تتجدد ملامح هذا النهج وتؤكد أن مجلس التعاون أحد أكثر التجارب الوحدوية قدرة على الثبات والاستمرار والتأثير رغم تغيّر السياقات الإقليمية والعالمية.
بناء مؤسسي وتكامل اقتصادي وأمني
وتبرز مسيرة المجلس منذ بدايته تطورًا مستمرًا في الهياكل المؤسسية وبناء شراكات اقتصادية وعسكرية وأمنية، وإطلاق مشروعات تكاملية أسهمت في حضور المجلس محليًا وإقليميًا ودوليًا، كما دعم الاقتصاد الخليجي واتحادات جُمركية وتسهيل الحركة التجارية والتنقل بين الدول الأعضاء، إضافة إلى مشروعات الربط الكهربائي وتسهيل الحركة عبر السكك الحديدية وإنشاء هيئة المدفوعات الخليجية وربط البنوك المركزية وتطوير المجلس الصحي الخليجي والمركز الخليجي للوقاية من الأمراض ومكافحتها وإصدار القوانين الموحدة المتعلقة بسلامة الغذاء.
وفي الجانب السياسي شكّلت القمم إطارًا موحدًا للتعامل مع القضايا الإقليمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والأزمات العربية والتحولات الدولية التي تستدعي مواقف مشتركة تحفظ الأمن الإقليمي وتدعّم الاستقرار، مع الالتزام بثوابت السياسة الخليجية القائمة على احترام القانون الدولي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ودعم الحوار والحلول السلمية.
المرحلة الألفية والتكامل الدفاعي والاقتصادي والمبادرات الكبرى
وشكّلت القمم منذ بداية الألفية الجديدة مساحةً للعمل الاقتصادي المشترك، حيث طُوِّرت الاتفاقيات ووُحدت الإجراءات الجمركية وعُززت السوق الخليجية المشتركة، وأقِرت تسهيلات واسعة أمام تنقل المواطنين وتوسع نطاق الأعمال والاستثمارات بين الدول الأعضاء، بما ساعد على بناء بيئة اقتصادية موحدة تتعامل مع المتغيرات العالمية بكفاءة ومرونة.
وتجلّت آثار هذه الرؤية في القمم اللاحقة التي أكّدت تعميق التكامل الدفاعي عبر تفعيل القيادة العسكرية الموحدة، والارتقاء بالعمل الأمني المشترك، وتطوير آليات تبادل المعلومات، ودعم الجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب والتطرف وتمويله، إضافة إلى توسيع التعاون الدولي وإطلاق شراكات استراتيجية مع الدول الكبرى والمجموعات الإقليمية؛ بما يعزز مكانة المجلس المحورية في حفظ الأمن والسلم الدوليين.
محطات بارزة وأدوار إقليمية وعالمية خلال العقدين الأخيرين
ومن أبرز المحطات التي رسّخت هذا النهج ما شهدته القمة الحادية والأربعين التي عُقدت بالعلا في يناير 2021 وأعادَت التأكيد على وحدة الصف الخليجي وأطلقت مرحلة جديدة من التعاون الشامل، وجاء بيان القمة ليعزز التكامل العسكري ويدعم الشراكات الدولية ويفتح آفاقاً أوسع للتعاون الاقتصادي، ويضع استراتيجيات واضحة للتعامل مع المستجدات الإقليمية والدولية.
في القمة الثانية والأربعين بالرياض في ديسمبر 2021 أكدت مجددًا قوة المجلس ووحدته، ودعمت المبادرات البيئية والتنموية مثل السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، إلى جانب تعزيز التكامل في الشراكات الاستراتيجية، والتأكيد على الالتزام برؤية خادم الحرمين الشريفين، والتشديد على مواجهة التحديات الأمنية وتطوير العمل العسكري المشترك.
وتحققت خلال الدورة الـ42 نتائج مهمة في تنمية التبادلات التجارية مع أبرز الشركاء التجاريين، منها تعزيز مفاوضات اتفاقيات التجارة الحرة مع المملكة المتحدة والصين وكوريا والهند وأستراليا ونيوزيلندا، لإيجاد بيئة تجارية مفتوحة قائمة على القواعد العالمية.
أما القمة الثالثة والأربعون التي عُقدت في الرياض عام 2022 فجانبت تعزيز سياسات تنويع الاقتصاد وتكامل الاقتصاد ودعم استقرار أسواق الطاقة والمضي في تنفيذ رؤية الملك لتحقيق الوحدة الاقتصادية والمنظومة الدفاعية والأمنية المشتركة، مع توجيه الأجهزة المعنية بمضاعفة الجهود لاستكمال المراحل التنفيذية.
وجدّد قادة دول المجلس في الدورة الرابعة والأربعين بالدوحة في ديسمبر 2023 موقفهم الثابت تجاه القضايا العربية والإسلامية، معبرين عن قلقهم من العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وإدانتهم القصف والتهجير وتدمير المنشآت المدنية في غزة بوصفها انتهاكاً للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
وفي العام الماضي استضافت الكويت القمة الخليجية الخامسة والأربعين، التي شكّلت امتداداً لمسار تفعيل العمل المشترك وتعزيز دور المجلس دوليًا، وأكدت القمة مواصلة تنفيذ رؤية الملك سلمان بن عبدالعزيز وتقوية آليات التعاون في الاقتصاد والأمن والدفاع والطاقة، وتوسيع الشراكات الإستراتيجية مع القوى العالمية ودعم الاستقرار الإقليمي.
إدراكاً برؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ورعايته المحورية لتحقيق التكامل بين دول المجلس، أسهمت المملكة بشكل فاعل في إنجاح الرئاسة الكويتية لأعمال الدورة الـ45 للمجلس، حرصاً منها على تفعيل الشراكة مع دول المجلس بما يحقق أولويات العمل الخليجي المشترك.
وعمل مجلس التعاون لدول الخليج العربية على تطوير وتعزيز الحوارات والعلاقات والشراكات الاستراتيجية مع كبرى دول العالم حيث يجري المجلس حوارات منتظمة مع نحو 16 دولة ومنظمة إقليمية، أبرزها الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند والرابطة الأوروبية والاتحاد الأوروبي ورابطة دول الآسيان.
ومع انعقاد القمة السادسة والأربعين في مملكة البحرين، ترتكز دول المجلس على رصيد ممتد من الإنجازات وتراكمات أثبتت قوتها وصلابتها وقدرتها على مواكبة التحديات وتطوير أدوات العمل الجماعي، وتعد القمة مناسبة لتعزيز ما تحقق وتحديد أولويات المرحلة المقبلة خصوصاً في ملفات التكامل الاقتصادي والأمن الإقليمي والطاقة والمناخ وتنمية الشراكات الدولية بما يلبّي تطلعات شعوب الخليج نحو مزيد من الازدهار والاستقرار.
وعكست مسيرة القمم الخليجية، منذ التأسيس حتى اليوم، ثبات الإرادة السياسية لقادة دول مجلس التعاون لتؤكد أن وحدة الصف واستشراف المستقبل ركيزتان جوهريتان في بناء منظومة إقليمية متماسكة، قادرة على الاستمرار والتطور، ومهيأة لمواجهة تحولات العالم ومتغيراته، ومع كل قمة جديدة تتجدد هذه الإرادة ويعاد التأكيد على أن مجلس التعاون سيظل—بإرثه ومؤسساته وإنجازاته—أحد أهم النماذج الوحدوية في المنطقة العربية، حاضناً لطموحات شعوب الخليج في الأمن والتنمية والازدهار.



