يرفع المتحف المصري الكبير رأس مصر عاليًا أمام العالم، وتبدأ قصتنا هنا ليست عن الذهب والتماثيل والعرش والفرعون، بل عن قصة أم بسيطة اصطدمت بابتسامة الأمل لأول مرة في هذا المكان.
قضت أم سنوات تخفي قلقها خلف ابتسامة مطمئنة، وتمسك بيد طفلها بخجل في الأماكن العامة كي لا يلتفت الناس إلى صوته العالي أو حركته المفاجئة. كانت كلما أرادت أن تخرِج ابنها المصاب بطيف التوحد أو بتأخر في النطق والكلام، تسمع العبارات القاسية المجللة بالشفقة: “خليه في البيت أحسن له”، “الزحمة هتتعبه”، “هو مش هيستحمل”… هذه العبارات لم تكن نصيحة بقدر ما كانت أمرًا غير معلن بالعزل.
وذات يوم مضى الطبيب نصيحته: “جربي بيئة بصرية غنية، يمكن يستجيب”. لم تكن واثقة من النصيحة، لكنها ذهبت إلى المتحف المصري الكبير بصحبة ابنها المبتلى باضطراب نمائي.
وهناك أمام تمثال الملك رمسيس الثاني الضخم، وتحت ضوء بهو صُمم ليحكي تاريخ دولة كاملة، حدث ما يشبه المعجزة الصغيرة: رفع الطفل عينيه وهمس، ثم كرر، ثم أعلن بتركيز ودهشة: “مَلِك… مَلِك… مَلِك”.
في لحظة واحدة، لم يعد صوت القاعة ولا وقع خطوات السياح مسموعين أمام الأم؛ سمعت صوت ابنها وحده، فهوت دموعها وارتجفت يداها لأنها للمرة الأولى لم تبكِ من العجز والقهر بل تبكِ فرحًا نقيًا.
هذه اللحظة ليست مشهدًا عاطفيًا عابرًا في يوم مزدحم بالتصوير، بل لحظة تعلن أن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكان يعرض مجد الحضارة المصرية القديمة، بل مساحة لكسر عزلتنا الحديثة عن أطفالنا المختلفين، وأنه يمكن – ويجب – أن يتحول من صرح عرضي إلى فضاء للعلاج والتأهيل والدمج لأطفالنا من ذوي القدرات الخاصة خاصة أطفال طيف التوحد وتأخر النطق والكلام، فهؤلاء لا يحتاجون شفقة إضافية، بل يحتاجون فقط أن تقول لهم الدولة والمجتمع معًا: “نراك.. مكانك معنا.. ادخل”.
ولمن يقفون خلف هذا الحدث التاريخي، من مسؤلين في الدولة وإدارة المتحف والوزارات والهيئات الشريكة، نقول: أنتم لا تفتتحون مبنى ضخم التكلفة فقط، أنتم تفتحون قلوبًا كانت مغلقة وتعيدون الأمل حيث ساد اليأس، أنتم ترسلون رسالة رسمية تقول إن الطفل الذي لا يتكلم كما يتكلم الآخرون ليس مدعوًا للشفقة… بل مدعوًا للحضور.
هذه ليست زيارة ترفيهية، إنها لحظة اعتراف، لحظة أم لا تشعر بالخجل، وطفل لا يشعر بالغربة، و دولة تقول: هذا المتحف ليس واجهة سياحية لمصر أمام العالم فقط، بل بيت كل طفل مصري… حتى الذي لم يجد كلماته بعد.
إن هذا المتحف قد يصبح نقطة تحول في دمج الأطفال ذوي القدرات الخاصة وفقًا للدراسات الأكاديمية العالمية، وهو ما يستلزم تهيئة المتحف بما يوازي إمكانات المعاقين ذوي القدرات الخاصة، ويشمل منحدرات حركة مهيأة للكراسي المتحركة، وممرات ومداخل واسعة، وإمكانية الإعارة الفورية لكرسي متحرك بدل إحراج الأسرة، وعربات نقل لتخفيف الإجهاد، ومصاعد مزودة بإرشاد صوتي يخاطب الزائر ضعيف البصر، ودورات مياه مهيأة، ونقاط استراحة على طول المسار لتهدئة فرط التحفيز الحسي عند أطفال طيف التوحد.
والأهم من ذلك، توفير مجسمات ونماذج لمسية مصحوبة بكتابة برايل، تسمح للطفل ضعيف البصر ألا يقف متفرجًا خلف خط أحمر بل يعانق التاريخ بيديه.
وهنا يجب أن نتساءل: ما معنى العلاج والتأهيل والدمج في سياق المتحف؟
الأطفال ذوو طيف التوحد وتلك الفئة التي تعاني تأخر النطق لا يكتسبون اللغة داخل غرفة مغلقة فقط، بل في المواقف الحية، فعندما يقف الطفل أمام رأس ملكي عملاق أو نموذج لمركب خوفو، ويُطلب منه أن يشير أو يصف أو يختار بين صورتين أو أن يردد كلمة بسيطة ك”ملك” أو “مركب”، فإنهم لا يتلقون تدريبًا لغويًا فحسب، بل يستخدمون اللغة كأداة حياتية ثم يتمكنون من نقل الكلام إلى تفاعل حقيقي مع العالم من حولهم، وهذا ما يعرفه علم اضطرابات التواصل باسم “التواصل الوظيفي”.
والجلسة هنا ليست جلسة أخصائي وطفل تحت الفحص، بل تفاعل اجتماعي بسيط مع مرشدة آثار تسأل سؤالًا مبسّطًا وتنتظر الإجابة، ثم يأتي دور طفل يعاني صعوبة المبادرة الكلامية.
هذه البيئات العامة المنظمة والآمنة نادرة في المدرسة التقليدية لكنها ممكنة داخل المتحف، فتصبح المتحف غرفة علاج نطقي كبرى لكن بكرامة وجمال وبدون وصمة.
متحف الطفل ومساحة تعليم حيّة
ثم نصل إلى الجوهرة التربوية التي يجب الدفاع عنها: “متحف الطفل” هذه ليست قاعة محاضرات للأطفال، بل مساحة تعليمية حية صُممت على مستوى عين الطفل، لا على مستوى عين البالغ. الفكرة ليست أن يقول له “هذه حضارة عمرها خمسة آلاف سنة”، بل أن يتيح له البناء، واللمس، وإعادة تركيب مشهد من حياة المصري القديم، ويدخل تجربة بصرية وسمعية ولمسية واقعية في زمن قصير يتناسب مع قدرته على التركيز. الهدف ليس إلقاء درس ثقيل، بل إشعال الفضول.
الفضول عند طفل يعاني طيف التوحد أو تأخر لغوي ليس رفاهية تربوية فحسب، بل هو مفتاح الدخول إلى العالم المشترك، عندما يندهش يشارك، وعندما يشارك يحاول التعبير، وعندما يحاول التعبير يبدأ صوته في الظهور.
وهناك مستوى آخر لا يقل أهمية وهو مهارات الحياة اليومية مثل الوقوف في صف التذاكر، الانتقال من قاعة إلى أخرى وفق تعليمات الجولة، طلب الاستراحة بهدوء، تحمل وجود غرباء دون شعور بالتهديد، الإجابة عن سؤال بسيط ثم العودة للهدوء. هذه ليست تفاصيل صغيرة؛ إنها شروط الاندماج الفعلي في المدرسة والنادي والمجتمع.
إن المتحف المصري الكبير يوفر بيئة آمنة لتدريب هذه المهارات دون عقاب أو إحراج، وبدون أن تشعر الأم بأنها “تختبر هل ابنها طبيعي”، بل فقط بأن تكون حضورًا واعيًا ومشاركًا في فضاء عام محترم.
كل هذا يقودنا إلى نتيجة واضحة: ما يجري في المتحف ليس افتتاح مزار سياحي فحسب، بل إعلان معيار أخلاقي جديد، أن مصر لا تعرض ماضيها الذهبي فحسب، بل تعرض شكل المستقبل الذي تريده لأبنائها، مستقبل تقول فيه إن التراث ليس حكرًا على النخبة ولا على مَن يتحرك بسهولة أو يتكلم بطلاقة، وإنما مساحة تعليم وتأهيل وكرامة.
عند هذه النقطة فقط نستطيع القول إن المتحف المصري الكبير لم يُبنَ لعرض مومياوات وكنوز ملوك مصر القديمة فحسب، بل ليعرض شكل المجتمع الذي نريده لأبنائنا الآن، مجتمع يعترف بأن الطفل الذي لا يتكلم بطلاقة أو يحتاج كرسيًا متحركًا ليتنقل بين القاعات ليس زائرًا ثقيلًا على الحضارة المصرية، بل أحد ورثتها الشرعيين.



