منذ الوجود الأول للإنسان، والجسد يتأرجح ويمتد بين الزمان والمكان، فهو مصاحب للبشري منذ خلقه وحتى فنائه، هذا الحضور الدائم للجسد في الفكر الإنساني خلق أبعادا متمايزة في التعامل معه، فذهب البعض إلى أنه مجرد وعاء للروح وآلة لتنفيذ رغباتها وموضع إحساسها بالألم واللذة، وعلى هذا جعلوا المحرك الأول للجسد يتمثل في الروح عبر مراحل ثلاث للفعل أو هي أوجه ثلاثة للفعل هي الإدراك والولع/ الوجدان والنزوع، أو هي كما قال الغزالي العلم والإرادة والقدرة، فـ “العضو لا يتحرك إلا بالقدرة، والقدرة تنتظر الداعية الباعثة، والداعية تنتظر العلم والمعرفة أو الظن أو الاعتقاد”.
بمثل هذا قال الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي يرى الجسد أيضا مجرد وعاء للروح، حين تغادره يصبح جثة هامدة، ويراه الفيلسوف الفرنسي ديكارت René Descartes وسيلة بين النفس والعالم؛ كونه أداة عاقلة، بينما يذهب الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا Baruch Spinoza إلى أن النفس ليست فاعلا وليس الجسد منفعلا بل، هما توافق ومحايثة وتلازم لا فصل فيه بين قوة النفس وقوة الجسد، بمعنى أن كل ما يشعر به الجسد باعتباره إحساسًا يشعر به العقل باعتباره شعورًا أو فكرة؛ فمثلا الجوع إحساس جسدي، أما الرغبة في تناول الطعام فهي شعور عقلي؛ إذ هما ذات الشيء، كما يناقش ذلك تفصيلا نصر سامي في كتابه الجسد في شعر محمود درويش.
شهد الجسد تنازعات فلسفية عديدة انحازت في أطوارها الأولى ضده باعتبار كونه تابعا لا فاعلا؛ فهذا الفيلسوف اليوناني أرسطو حين يقسم النفس ينحاز إلى العقل على حساب الجسد، حيث قسمها إلى النفس العاقلة أو المفكرة وهي المختصة بالتفكير العقلي، والنفس الغاذية أو النباتية وهي المختصة بالغذاء والنمو، والنفس الحسية التي تنفعل بصورة المحسوس، بل ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الحياة العقلية للرأس، والحياة الأخلاقية للصدر والقلب، بينما الحياة الحيوانية تتعلق بالبطن وما تلاه من أعضاء، كل هذه التقسيمات انحازت ضد الجسد وألصقت به صورة ذهنية دونية توارثها المجموع البشري، حتى غدا الحديث عن الجسد يقع بين أمرين أولهما الرغبة الملحة في كسر التابو واختراق المسكوت عنه، والثاني التقيد الصارم بالنأي عن الخوض فيه.
الجسد كما قال ابن منظور في لسان العرب: جسم الإِنسان ولا يقال لغيره من الأَجسام المغتذية، ولا يقال لغير الإِنسان جسد من خلق الأَرض، والجَسَد: البدن، تقول منه تَجَسَّد، كما تقول من الجسم: تجسَّم، وهو لا يطلق إلا على كل ذي عقل كما قال الجرجاني.
لم يكن غريبا على النشاط الإنساني تعظيم دور جسد المرأة واستحضار كل ما هو حسي أو غير حسي ودمجه في جسدها، لتمريره عبر صور عدة، وبلغ من اهتمام البشر بالأنثى باعتبارها صورة مجسدة للأمومة والخصب أن جعلوها بمرتبة الإله، فعبر القراءة في الميثولوجيا تظهر أسماء الإلهة الأنثى لدى أطياف كبيرة متعددة من المجتمع الإنساني القديم “إنانا، عشتار، عناة، إيزيس، سيخمت، أرتميس، وأفروديت…إلخ”، ولم ينج الجسد الأنثوي من فكرة الغواية في مقابل فكرة الطهر، فكما أن هناك “باسيفاي” زوجة الملك مينوس التي حملت من ثور، وأهولة وأهوليبة في الكتاب المقدس، كانت هناك مريم بطهرها، واستمرت تلك الثنائيات التي جعلت من الجسد الأنثوي حاضرا منذ ما قبل عصر النقش وحتى عصر النقر على الشاشات.
لقد شاع في الشعر العربي استثمار الجسد وتوظيفه في قصائده، ولقد حظي الجسد – بخاصة جسد المرأة – بمكانة مستقلة وفريدة في شعر الغزل العربي، لكنه تسلل لكل أغراض الشعر العربي عبر المقدمات الغزلية، حتى إن كانت هذه القصائد تتعلق بالفخر أو المديح أو حتى الرثاء، ولم يغب الجسد الذكوري لكن بنسة أقل بكثير، ربما وقفت على الفخر كقول عنترة:
لَئِن أَكُ أَسوَداً فَالمِسكُ لَوني … وَما لِسَوادِ جِلدي مِن دَواءِ
أو قول العباس بن مرداس:
تَرى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزدَريهِ … وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ مُزيرُ
وَيُعجِبُكَ الطَريرُ فَتَبتَليهِ … فَيُخلِفُ ظّنَّكَ الرَجُلُ الطَريرُ
والرثاء في قول الخنساء في صخر:
أَلا تَبكِيانِ الجَريءَ الجَميلَ … أَلا تَبكِيانِ الفَتى السَيِّدا
طَويلَ النِجادِ رَفيعَ العِمادِ … سادَ عَشيرَتَهُ أَمرَدا
وشاع أيضا ذكر جسد الأنثى ولكن تفرد وحده بالغزل، حتى لقد انقسم الغزل إلى صريح يتناول مفاتن المرأة، وكان امرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة روادا في هذا الباب، ومنه قول امرئ القيس:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ … تَرَائِبُهَا مَصْقُوْلَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ
يريد أنها امرأة دقيقة الخصر، ضامرة البطن، وصدرها براق، يتلألأ كالمرآة، وإلى غزل عفيف كان على رأس شيعته كثير عزة، وقيس ليلى، وجميل بثينة، وغيرهم، ممن فتنوا بالجمال الباطن وركزوا وصفهم على ما تبوح به العيون وما تمليه الشفاه ولم يجهدوا راحلة شعرهم خلف المفاتن، ومن ذلك قول جميل بثينة:
وأحسن خلق الله جيدًا ومقلة … تُشَبّهُ فى النسوانِ بالشَّادِنِ الطِّفلِ
وفي غير الغزل أيضا حتى لقد امتد للمديح النبوي، ومن ذلك مطلع قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ … مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا … إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً … لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
بل لقد حل الجسد الأنثوي محله من الأمثال والحكم التي تجري جريان الماء على الألسنة ومن ذلك قول الحارث بن سليل الأسدي: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
من هذا المنطلق فقد حفل ديوان “أنا سراب لمن لا يؤمن بالماء” للشاعرة سراب غانم باستعمالات الجسد حتى لا تكاد تخلو قصيدة من الارتكاز عليه والمرور من خلاله، ويمكن تناول الجسد عند سراب غانم عبر شقين: أولهما، علاقة الجسد بالذات، وثانيهما علاقة الجسد بالآخر.
أولا، علاقة الجسد بالذات:
ارتكنت الشاعرة إلى الجسد في التعبير عذ ذاتها الشاعرة باعتباره لغة الوعي التي تتترجم عبر إشارات وإيماءات عديدة منها يتولد النص الشعري، ويمكن قراءة ذلك عبر الآتي:
أ. الجسد المقاوم:
تواترت صور مقاومة المرأة للرضوخ للذكورة سواء عبر تمردها على العقل الأبوي/ البطريركي الساعي إلى خفوت نجمها وإزاحة ضوئها، وصولا إلى التمرد على السلطة الذكورية للمحبوب، تقول في قصيدة لبؤة: “المرأة التي تجيد الرقص تذبح بكل ليونتها عنق الديك إذا تألم…. المرأة التي بكل دقة ترسم زاوية العين كذئبة لا تتقن دور الضحية، بل تقلم المخالب جيدا لتقص حبال الصرخة قبل خروجها”، فالجسد هنا مقاوم تملك به الأنثى زمام إدارتها، تستثمره كسلاح مواجهة، وتمرر ذلك عبر إيماءات تتعلق بشكل العين، ووضعية الجسد وحركاته، وهذا التوظيف للجسد يعتمد على وجود دال (الرقص، تذبح، ليونة، عنق، ترسم، زاوية العين، ذئبة، الضحية، المخالب، تقص)، ومدلول يرتبط به فالأنثى التي تجيد الغواية في سبيلها لاستدراج الضحية – التي كانت قاهرة يوما ما – وعبر ليونتها تسيطر عليه وكأنها خدر يسري في جسده، هذه المرأة التي تمارس طقوسها الخاصة فترسم عينها كعين ذئبة تتمتع بالدهاء والمكر، ليراها للحظات مشوشة ذلك المخدر بغوايتها المسلوب القدرة على المواجهة أو الفرار، حتى إذا ما تمكنت أعلنت عن حقيقة هويتها وأشهرت مخالبها المعدة جيدا للقطع، في مزاوجة بين قطع عنق الديك، وقطع حبال الصرخة من جوفها خوفا أو شفقة، والمرجع هنا هو مجموع الترسبات الفكرية التي ترسخت عبر مشاهد المقاومة الأنثوية، حيث تستحضر الشاعرة ما هو حسي مطابق للموقف النفسي وتدمجه في جسدها المرأة/ الذئبة عبر استخدام المتخيل الحيواني بدءًا من عنونة القصيدة باسم كائن مفترس هو اللبؤة.
لم يكن فعل القتل خارجيا فقط، وإنما امتد داخليا ليكون قتلا مزدوجا متمثلا في ثنائيات هما (خارجي/ داخلي، المحبوب/الذات الشاعرة، القتل/الانتحار) تقول في قصيدة انتحار “قتلتك داخلي، لدرجة أني حين رأيت صورتك بكيت دمنا، حين ناديت باسمك بصقت دمنا، وكلما مرت كفك خيالا فوق كفي نَزَفَتْ عروقك تحت جلدي دمنا”، هذه الصورة من صور التوحد بالمحبوب درجة أن قتله داخل الذات الشاعرة يعد قتلا لكليهما، تتمثل حدته في تكرار كلمة “دمنا”، لقد كان الجسد حاضرا في أفعال (الرؤية، البكاء، النزف، النداء، البصق، الكف، العروق، الجلد)، هذه الديناميكية المتراتبة لفعل الرؤية والتي تنبني على انعكاس الضوء من الشيء إلى العين لتبصره فيطعن الضوء العين لتنزف دموعها/ دمهما، ثم انفجار الصوت بالنداء الذي يجرح داخلها في طريق خروجه فتبصق اسمه ممتزجا بدمهما، والكف التي تمر على كفها فتنزف عروقه تحت جلدها دمهما، وهذا إنما هو راجع لأحد أمرين إما أن الحزن فعل بها ما فعل درجة أن رق جلدها حتى إذا مر مجرد خيال كفه عليه يُدمى، أو أن كفه لها من القوة ما إن بمجرد مرورها – ولو خيالا – أن تمزق جلدها وتقطع العروق التي تنزف دمهما، وفي كل الأحوال تتحق تلك الثنائيات.
لا تستخدم الذات الشاعرة الرقص كوسيلة للغواية فقط، وإنما تستخدمه كفعل مقاومة يدل على اعتزاها وكبريائها وقدرتها على تطويع الجسد وفق إرادتها فتقول في قصيدة نقار الخشب “دموعي تتقن الرقص جيدا، ولا تسقط”، إنها تجيد التحكم درجة أنها لو على غرة منها ترقرق الدمع في محجريها – والذي تعبر عنه بالرقص- فإنها قد تحيله لتصوره رقصة المنتصر على ضعفه وقدرته على كبح بيان ضعفه بذرف دموعه أمام من لا يستحق، لتقتل فرصته في كسر كبريائها ومقاومتها.
في موقف أقل حدة من سوابقه، وكفعل للمقاومة تقول في قصيدة كمشة سكر “أضع الكثير من الملح على قلبي في كل مرة تأتي بها لتعض على جرحه”، لنرى ردة نوعية من فعل الهجوم إلى الدفاع، فتكتفي بتقبل عضاته دون مقاومة تذكر سوى أن تضع ملحا كثيرا على جرح قلبها لعله يكون واقيا لها من تكرار عضاته، لتتحقق ثنائية الألم المشترك مرة أخرى فجراح قلبها يكويها الملح، ولكنها الوسيلة الوحيدة التي ستؤلمه عند توجيه عضاته المتتالية لقلبها.
تخفت المقاومة أكثر حين تتحول فقط لطلب المغادرة بهدوء في قصيدة ادعاء “أنا ما أحببتك يوما، لذا قف الآن واخرج بكل هدوء من خزانة قلبي”، وهذه المطالبة بالخروج لا سبب لها هنا سوى الاعتياد الذي تسبب في حالة الملل “اعتدت عليك كالرقص أمام مرآتي… كطقطقة أصابعي، وقضم أظافري حين أتذكر،… ونتف أطراف شعري وأنا أفكر”، الحركات الاعتيادية تلك تبرز قدرة الذات الشاعرة على التخلي، حتى عن أجزاء من جسدها، دون أن تلقي لذلك بالا، فهي بكل بساطة تتخلى عن سكونها لترقص، وعن هدوء أصابعها، وعن أجزاء من أظافرها وأطراف شعرها، كأنها توجه له رسالة أنه ليس أغلى عليها من جسدها، ولهذا فمغادرته ستعد شيئا اعتياديا، وغير مؤلم حيث لا تتألم المرأة إن قصت أطراف شعرها أو قضمت أظافرها، حيث لا توجد نهايات عصبية للإحساس في هذه الأجزاء.
لا تتوقف المقاومة على التحكم القلبي ومحاولة التغيير الداخلي، بل يمتد إلى وضع خطة لمقاومة الجسد للزمن وما يحدثه من تغييرات جسدية في وصف أشبه بوضع برنامج للنحافة والتجميل في قصيدة شر البلية لا يضحك، فالذات الشاعرة في خوفها من الزمن وإحساسها بورطة تخليها عن عنفوان جسدها تقول “أشعر وكأنني في ورطة… كيف أعيد لوجهي النضارة؟ ولشفاهي الحزينة ابتسامتها؟ لشعري المنكوش من دهر ولقلبي اليابس اخضراره؟ … على جبيني خرائط العالم”، حالة متخيلة في ذهن الذات الشاعرة تطرح سؤالا حول ماذا سيكون عليه جسدها حال الكبر؟، ثم تبدأ في رسم خطتها لمقاومة يد الزمن “أقف الآن أمام مرآتي… وأفكر من أين سأبدأ، من جسدي المترهل أم من خدودي الشاحبة؟!” ثم تأخذها التقريرية للحد الذي تتناسى معه كونها ذاتا شاعرة إلى كونها أنثى مجردة فتقول “سأبدأ أولا بالحمية، وبعض التمارين الرياضية، أركض في الصباح باكرا … أضع الخيار حول عيني، أمد قناع شد الوجه، وبعض الوصفات السحرية، سأقص شعري التالف، وأصبغ ألوانا فاقعة، أشتري ثيابا جديدة وعطرا، وألبس الكعب العالي” فالجسد في كل ما سبق تحت سيطرة وتصرف الذات الشاعرة توجهه كيف تشاء، على اختلاف حدة حالات المقاومة.
ب. الجسد الشاكي:
لطالما ذخر الشعر العربي باستخدام الجسد للشكاية، فما بين العيون السواكب دمعها في إثر من رحلوا، ومنه قول المتنبي:
تَوَلَّوا بَغتَةً فَكَأَنَّ بَيناً … تَهَيَّبَني فَفاجَأَني اِغتِيالا
كَأَنَّ العيسَ كانَت فَوقَ جَفني … مُناخاةٍ فَلَمّا ثُرنَ سالا
وما بين نحول الجسوم، ومنه قول الأحوص الأنصاري:
سأَلَتْ ظَبيةُ ما هذا النحولُ … أسَقامٌ باحَ أم همٌّ دخيلُ
أين ذاك الظاهرُ المالىءُ للـ … عينِ والمختَرَطُ الرطبُ الصقيلُ
إلى غير ذلك من استعمالات الجسد لإبراز الشكاية، وبيان التأثر مما أضناه من آلام جراء الإهمال والترك، والصور المستقرة للجسد في هذه الباب يمكن تلقيها أوليا وبشكل مباشر عبر المعاني الصريحة المتداولة الراسخة حول الجسد في النص الشعري، ولقد عمدت الشاعرة إلى النأي قليلا عن تلك الصور المكرورة في محاولة إيصال شكايتها عبر أيقونة الجسد بما يستطيع المتلقي ترجمته قياسا على الصور المتداولة، تقول في قصيدتها نبض لامرأة جثة “جسدي… شماعة مركونة في زاوية مهملة ضيقة، يقصم أسفل ظهره ثقل ثياب تراكمت فوق أذرعه الهشة”، من عنوان القصيدة يحضر الجسد متمثلا في (النبض/ المرأة/ الجثة) لتثير تساؤلا حول هذا العنوان المتناقض فالنبض دلالة الحياة كيف يتأتى وجوده في الجثة الدالة على الموت لتتحق ثنائية الموت/ حيَّة، وكأن ما قاله أفلاطون وديكارت حول كون الجسد مجرد وعاء للروح يقف عاجرا – مجازيا – عن تفسير تلك الحالة التي ماتت فيها الروح داخليا، ليظل الجسد/ الجثة محتفظا بأحد مظاهر الحياة وهو النبض، ثم يمتد استثمار الجسد عبر القصيدة لا عن طريق خلق معادل موضوعي بين الجسد والشماعة بل في خلق حالة توحد ليصبح الجسد بالفعل شماعة تعاني الإهمال في زاوية ما تنوء بحملها من الثياب الرثة البالية التي تتراكم فوق أذرعها، وهنا تتداخل الضمائر في (مركونة، ظهره، أذرعه) دلالة على هذا التوحد، وهنا تلاحظ عملية الدمج الحسي بين جسد المرأة وبين الجمادات لإضفاء صفة الأنسنة عليها، لتصبح المرأة صفة “والصفة أو الصفات أوجه للماهية، والماهية أساس المعنى، وإذًا فكون المرأة صفة يعني أنها أكبر من تجسدها” كما يشير لذلك هلال الجهاد.
ربما تكون الشكاية ممتدة عبر النفسي والزمني والمكاني، تتطور مأساتها فتتطور علاقتها بالجسد تقول في قصيدة جوع عتيق “قلبي طفل جائع كان يحبو على بلاط بارد تناغي فمه المفتوح أحضان غريبة لا يريدها… طفل قلبي صار صبيا مشردا يجوب الشوارع بحثا عن كسرة خبز عفنة … صبي قلبي فتى عاطل عن العمل … قلبي الآن رجل محكوم بك، بلقاء يتيم كان في ظاهره وداعا وفي جوهره رغبة بلدغ عقرب ساعة …. الشبع لقمة بعيدة تلوكها المسافة بينهم لتبصق في وجه قلبي خيبة انتظارك”، مأساة الانتظار هنا امتدت عبر بعدها النفسي المتمثل في جوع القلب للقاء الذي يكلل في النهاية بخيبة الأمل ليكون وداعا لا لقاء، فترتسم علاماته جسديا على القلب (الرضيع، الصبي، الفتى، الرجل) وما يلازم هذا التطور الزمني (الحبو والمناغاة، التشرد، البطالة، القهر والانتظار، عقرب الساعة)، والتطور المكاني (أحضان الغرباء، الشارع، زاوية الرصيف، السور المتسخ)، هذا الانتظار كان من شأنه أن يرافق مراحل متعددة لحياة القلب كان العامل الجسدي فيها مستمرا متجسدا في الإحساس بالجوع الدائم للحضن الحبيب، للتقدير، للعيش الكريم، للقاء، مما يعطي أبعادا دلالية متعددة لاستعمال القلب هنا.
تعددت الشكاية التي يبوح بها القلب في قصائد الديوان ولعله كان العضو الأكثر استعمالا ويقع عليه التأثر الجسدي الأكبر باعتباره نائبا عن الجسد ككل، في قصيدة قصاص الشمس تقول “تأخر الوقت لم يعد كافيا لتقبيل جبين ذكرى تلوي ذراع القلب” هذا الانتظار الذي أفضى إلى وشك انتهاء الساعة الرملية للفرصة الأخيرة بحيث لم يعد هناك ما يكفي حتى لقبلة على جبين الذكرى، تلك الذكرى التي كم أرغمت القلب على الانتظار، لكن لم يعد هناك مسوغ للبقاء.
تكررت استعمالات القلب المتعلق بشكوى الانتظار كثيرا ومن ذلك قولها في قصيدة نقار الخشب “في الليل ينام الجميع، وأنا بسابع صحوة، أعد خراف الحزن، تأكل من عشب قلبي وتكبر” وفي قصيدة كمشة سكر تقول “أنشر قلبي على حبل الغسيل كي يجف، أثبت أطرافه بالملاقط، أعرضه لأشعة الشمس، وحين أتأكد من جفافه تماما … أتأمل صورتك”.
لا يقف استعمال الجسد للشكاية على مغزاه الذاتي، بل يتطرق إلى ما هو موضوعي، ذلك الجرح الذي تنكأه الحياة الشرقية للمرأة بشكل عام وللذات الشاعرة بشكل خاص، ولطالما لجأت الشاعرات إلى الجسد للتعبير عن شعورهن تجاه العادات والتقاليد الشرقية، وربما كان للحركات النسوية في السبعينيات من القرن الماضي أثرهن في ذلك؛ فمن المعروف أن تلك الحركات دعت مرارا لحرية تصرف المرأة في جسدها تصرفا تاما، ورفض النسق الاجتماعي المتعلق بالجسد من دور الأمومة والرعاية وخلاف ذلك، لكن القصيدة هنا لمحت فقط إلى ثقل ميراث الجدات تقول “أنا ابنة الحكايات المجدولة من تجاعيد كفوف جداتنا لضفائرنا الصغيرة … أتحدث عن التباسات الحقيقة حول ما قيل لنا عن لعنة التفاح، وحتمية الظل المحكوم بالشمس، وكيف الحكايات اختبأت في حبل سرتنا ودفنت تحت التراب”، هذه الشكاية الشفيفة لم ترم بعيدا إلى الحد الذي طالبت به النسويات بل ناقضته في مواضع أخرى بدفاعها عن قيمة دورها الاجتماعي تقول “بي من النساء اتزان الثلاثينيات، بقلب حنطة أنثره دفعة واحدة على شباك بيتي الصغير،…، بي من الأم خوف وضعف، وبي منها لبوة إن مس الخطر صغارها”، والذات الشاعرة هنا تمثل المرأة في ثلاثيتها: الأنوثة والجسد والهوية، التي “مارس فيها الخيال الفني ثورته على القيود والمحرمات باعتباره ينمو وفق منطقه الداخلي ليشكل خصوبة رمزية في الممارسات الإنسانية” كما أشار عبد النور إدريس، وفق ما اعتاده العرب من استعمالات جسد المرأة ودمجه في الأشياء “فإن اليعاريب قد ابتدعوا ما يمكن أن نسميه (تناسخ الأجساد) وخلاصته أن تغدو المرأة على هيئة الناقة … وعلى صورة الفرسة…” كما أشار لذلك خليل عبد الكريم، والجسد في كل ما سبق يلتحم مع الذات الشاعرة ويترجم لهمومها وقضاياها.
ثانيا، علاقة الجسد بالآخر:
أ. الجسد المتمظهر:
لا يظل استعمال الجسد متعلقا فقط بجسد الذات الشاعرة كونه “حفريات السنين بمؤثراتها وتفاعلاتها فهو المكان الذي تنصهر فيه الأنا” كما أشار ميشيل فوكو، بل تمتد انعكاساته على الأشياء حولها فـ “يتجلى في النص الشعري جسدان، جسد مرئي وآخر متخيَّل يتمثل في الذاكرة والخيال، وهذا الجسد المتخيَّل (بفتح الياء) هو أيضا جسد متخيِّل (بكسر الياء) فمنه يتولد في النص الشعري جسد الحب، وجسد الجنس، وجسد الموت، بل جسد النص نفسه” كما أشار المنصف الوهايبي، من هنا كانت أنسنة الموجودات بقياسها على جسد الإنسان.
في قصيدة أرق تقول “الحنين … أراه من بعيد … يقترب بخطوات واثقة، يستل سيفه الحاد ليقص رؤوس ذكريات تسيل من أمامي لزجة دافئة….، يلوح الحزن لي بكفه الجائعة، يقلم مخالبه فوق وجهي، يحفر شقوقا عميقة على ملامحي، يفقأ برأسها زاوية العين”، تتخذ من الأنسنة انبثاقا للكتابة فتضفي على الحنين صفات (التجسد، الاقتراب، الخطو، الثقة، استلال السيف، قطع الرؤوس)، وعلى الذكريات (الرأس، النزف)، هذه الحركة الجسدية التي تتشبع بها القصيدة تضفي جوا تأثيريا لسطوة الحنين الذي يعرف كيف يسيطر على الذات الشاعرة في كتابتها، فيقترب بخطى واثقة توحي بتمكنه التام، ثم يستل سيفه ليضرب رؤوس الذكريات، لا للتخلص منها، وإنما لتسيل أمامها فتشرب منها حد أن تقتلها ملوحة هذا الدم، فكأنه يقضي عليهما معا فتتحد الذات الشاعرة مع الذكريات في فعل القتل، وهنا يتجلى الحزن بدوره الذي تضفي عليه صفة (التلويح، والكف، والمخالب) ثم على كفه صفة الجوع، كل ذلك يقوم بدوره في جسدها، فهذا الطائر الجارح الشرس يحفر شقوقا عميقة في وجهها، ويفقأ عينها ليترك دمعة تترقرق في العين لكنها لا تسقط، في محاولة أخيرة للتماسك.
في قصيدة أخرى هي قصيدة قصاص الشمس، تخلق إرادة للصور تسحقها الذات الشاعرة بما لها من قدرة أعلى تقول “تلك الصور أتذكرها؟ سأدسها – رغم أنفها – في جوارير مقفلة صدئة، وسألعن المفتاح وأشنق به عنق رجفاتنا الصعبة، أو ربما سأشعل بها نارا وأرقص كالفراشة على موتها”، إرادة الصور في الحرية تكسرها رغم أنفها إرادة الذات الشاعرة في حبسها في أدراجها وخلق بيئة تشبه السجون المقفلة الصدئة لتعطي أثرا نفسيا أكثر إيلاما لتلك الصور فوقوعها تحت نير القهر والحبس والبيئة غير الملائمة، يمكن استشفافه عبر المخيل الثقافي لقراءة تلك الإشارات فالسيميولوجيا كما يقول سعيد بنكراد “أداة لقراءة كل مظاهر السلوك الإنساني، بدءًا من الانفعالات البسيطة … وانتهاء بالأنساق الأيدلوجية الكبرى”، فمن قراءة إجراء الذات الشاعرة ضد الصور ينتقل إحساس تلك الصور السجينة لنفسية المتلقي؛ إذ “لا يمكن إنتاج استعارات إلا اعتمادا على نسيج ثقافي ثري … مسبق التنظيم في شبكات من المؤولات” كما يقول إمبرتو إيكو، ثم تمعن في قهر تلك الصور فتصب اللعنة على المفتاح وتحوله لأداة شنق تلفها حول عنق الرجفات للتخلص من حالة التردد التي قد تصيب القاهر في لحظات استرجاعه لإنسانيته، فلا تترك لذلك التردد فرصة فتشنق تلك اللحظات، ثم تبحث عن بديل أسرع مضيا للتخلص من الصور فتقرر أنها ربما خلقت طقسا جسديا عبر إحراقها والرقص حولها، تلك الصورة المنطبعة للجسد في الذهن من ممارسة الطقوس البدائية حول النار لتتخلص من ترددها عبر سرعة الحرق وانتشاء الجسد بالرقص.
في مواضع أخرى تخلق جسد الحب وجسد الموت وجسد القدر فتقول “يصبح الحب المعادل الموضوعي للحب… حين يرقص قلبك بفستان فرحه … ومرة على اللحن نفسه يلبس سواد طقسه الجنائزي … يلطم على صدره بكلتا يديه… يدور بشعره الغجري…إلخ، وفي موضع آخر “… ولسان الحب مقطوع، … أكسر أقدام المسافة، أشد الوقت من أذنه، أصفع مساءاتي الحزينة، كف المتاح مبتورة، أمشط شعر الوعود، أشمُّ عنقها، أمسد يد الأمان” وغير ذلك من مواضع عديدة كان الجسد فيها هو الأيقونة الأسمى التي تلجأ إليها الذات الشاعرة للتعبير لحظة الكتابة عما يجيش في صدرها متكئة اتكاءً كليا على الجسد في تمرير مضامين القصائد، وفي كل ذلك كان الجسد مرآة كبرى للعالم.
ب. الجسد الآخر:
من الممكن ألا يكون جسد للذات الشاعرة في القصائد هو الفاعل دائما، بل ربما حضر الجسد الآخر ليكون جسدها منفعلا وواقعا تحت التأثير، وينعكس ذلك على الاستعارات الأكبر، وربما كان تأثير الجسد الآخر مكمنا لانبثاق إعلان جسد الذات الشاعرة عن رغباتها، وفي هذا قد لا يكون الجسد متواطئا ومنصاعا كما استعملته حال المقاومة، أو متضامنا كما استعملته حال الشكاية، أو منعكسا على العوالم حولها كما استعملته في حالات التمظهر، بل الأجدى به هنا أن يكون منقلبا ضد إرادتها على الأرجح.
في قصيدة لا تفطميه تبدو تأثيرية الجسد الآخر تماما على جسدها، وأن الآخر قادر أيضا على استعمال جسده كأداة يمكن أن تحدث أثرها، تقول “أن يحبك رجل بقلب طفل، يعني أنه سيحبو لصدرك طويلا، وأنك ستناغين بكل حنانك أوديب فمه، ولن تفكي عقدته؛ لأن قلبك حينها سيتحول إلى نهر كبير يتدفق عشقا كلما اقترب منه أكثر”، هنا تبدو فاعلية الجسد الآخر تماما في أفعال (الحب، الحبو، الرفض، الاقتراب) واستجابة جسدها التامة في أفعال (المناغاة، الحنان، التحول، التدفق) بل الجنوح التام للاستسلام لتأثيرية الجسد الآخر (لن تفكي عقدته)، اتكأت هنا على أيقونة الجسد أيضا، ولأن حبيبها يسعى إلى جسدها بقلب طفل أوديبي فسيتأثر لذلك صدرها الذي سيناغيه، ويتحول لأجله نهرا كبيرا يتدفق عشقا، بل ستعمل على عدم فك عقدته كما يتخلص منها للأطفال، بل ستعمل على بقائها ليظل يحبو إليها بنهم الطفل، وبذلك يتجلى استعمال الآخر للجسد للتأثير عليها.
في قصيدة قصاص الشمس تقول “ألم تخبرك الشمس وأنت تفقأ عينها بإصبعك وتلعق نار شهدها العالق على إصبعك أن الضوء هو استمالة القلب للقلب؟” فهنا كان جسد الآخر هو الأعلى تأثيرا ففي قدرته أن يفقأ عين الشمس لتظلم الدنيا، ويظل هو هازئا بالوقت يلعق شهده على إصبعه، بينما تظل الذات الشاعرة أسيرة انتظارها، فهو لم يضل الطريق إليها، بل تعمد أن يمر الوقت عليها وهي تنتظر لقاء القلب بالقلب، ثم تتخلى عن هذا الانتظار المشوب بالأمل لتغلق أبوابها موجهة عتابها “ألم تقل لك كلاب الطريق وهي تتربص برأسك الثقيل المتكئ على حجر أن الحصى بوصلة؟” فهو أثناء مسيره الكسول للوصول إليها مفضلا دعته وراحته على لقائها لم يأبه لتحذير كلاب الطريق ولا لإشارات الحصى الدالة على اتجاهها، فكان من الطبيعي أن تغلق بابها لأنه “ت أ خ ر ا ل و ق ت، وكعب الحنين العالي انكسر وسقط ونهشته الذئاب الجائعة” فهنا وحينما أرادت أن تعبر عن كونه مخدوعا في تباطئه اتكأت على جسده والجسد المؤثِّر عليه؛ لأنه هو الآخر واقع تحت تأثير كلاب طريق متربصة، ربما أشارت بذلك إلى تلك اللواتي حاولن صرفه عن الطريق، فصورتهن وكأنهن يتربصن برأسه، وحينما أرادت أن تبرهن على وضع نقطة تنهي هذا الفصل من العلاقة اتكأت أيضا على الجسد فجعلت لحنينها جسدا تنهشه الذئاب الجائعة وتقضي عليه، فكان رد فعلها الجسدي نتاج لتأثير الفعل الجسدي للآخر.
في قصيدة شر البلية لا يضحك تقول “كنت أعد شيب ذقنه حين انتبه إلى أني جميلة … لا أدري أأضحك من فرحي؟ أم أبكي انتظاري الطويل وفساتيني القصيرة ومساحيق تجميل استهلكتها، وزجاجات عطري المثيرة”، محفزان تعلقا بجسد الآخر كان لهما تأثيرهما على جسدها، أولهما شيب ذقنه، وثانيهما انتباهته بعد أن شاب لجمالها، فرض التأثيران حيرتهما التي اتركزت في التعبير عنها جسديا على الفساتين القصيرة التي تلبسها من لا زلن يملكن أنوثة لافتة، لا اللواتي أصابهن الترهل فيختبئن خلف الأردية الطويلة وفق تصورها، كذلك مساحيق التجميل والعطور، وما تتجمل به الفتيات لرجالهن وهن في قمة أنوثتهن، ما أثار ردة فعل حائرة حول فرحتها باعترافه أخيرا بجمالها، أو حسرتها على ضياع كل ذلك معه دون أن يدرك قيمته، فيثير هذا التساؤل الحائر حفيظتها لوضع خطتها لاسترجاع نفسها كأنثى – كما أسلف في استعمالها الجسد للمقاومة- ثم تأتي المفارقة في كون كل ذلك متخيلا “فجأة أفتح عيني”.
كان للجسد الآخر تأثيراته المتعددة أيضا على جسدها فهو حين ينقر بأصابعه على شباكها تدرك أنه مطر ويحيلها ذلك إلى “الغجرية التي سترقص بجنون”، وتارة أخرى حين يغيب عنها تقر “أشعل رؤوس أصابعي بنار قداحتي، أطفئ أعقاب السجائر بباطن كفي”، وتستسلم له حين يسمي قلبها بيته الدافئ فتسمح له أن ينقر خشبها، إلى عير ذلك من تأثيرات الجسد الآخر على جسدها، وفي كل ما سبق تفقد الذات الشاعرة سيطرتها التامة على جسدها الذي لا يعمل في هذا التصور وفق إرادتها بل ربما يناقضها وينقلب عليها.
أخيرا، لقد تمركز الجسد في طيات الديوان في كل قصائده حتى لا تكاد تخلو منه قصيدة، بل لقد جعلت منه الذات الشاعرة طريقا للوصول إليها “مفتاحي رأسي فإن أردت الدخول … عليك أن تخلع حذاءك خارجا، وأن تمشي على رؤوس أصابعك”،وهذا الحضور الطاغي للجسد جعلها تجسد الماء في صورة قلبها/ ذاتها وتجعله حقيقتها، تلك الحقيقة وحدها هي القادرة على منح تأشيرة الدخول لإرواء من تحب، وفي مقابل ذلك فهي “سراب لمن لا يؤمن بالماء”.