فتح محمد عبدالمنعم مدبولي باب منزل العائلة في مصر الجديدة ليكشف لنا عن تفاصيل الزمن الجميل الذي صاغته موهبةٌ استثنائية وإنسانية عميقة، وهو ابن الفنان الراحل عبدالمنعم مدبولي الذي لم يكن مجرد رمز فني بل أبٌ حنون ومربٍ صارم ويترك بصمة لا تُنسى في المسرح المصري وفي حياة أسرته.
كان والده في فترة الستينات مشغولاً بتكوين اسمه ونجوميته بشكل دائم، فكان يعمل في مسرح التليفزيون ومع فرقة الفنانين المتحدين، ويؤسس المسرح الحر كمخرج وممثل، وفرقة ساعة لقلبك، فكان نصف مجهوده خلال هذه الفترة يُكوّن ما سيكون تاريخاً له. وبمجرد أن يقرأ الجمهور اسم الإخراج عبدالمنعم مدبولي على أي مسرحية، يسارعون للدخول، فقد حجز اسمه مكانه في ذاكرة الجمهور.
لم تكن إسهاماته المسرحية مجرد عروض ناجحة بل كانت ورشة لاكتشاف النجوم، وهكذا اكتشف والده مواهب لامعة: صلاح السعدني وعادل إمام، وبدت انطلاقة هؤلاء مع فرقة المدبوليزم، كما ساهم في شهرة يحيى الفخراني وفاروق الفيشاوي وسامية الألفي، وارتبط اسم حسن حسني بأول بداًيته مع والده ثم استمر في مسيرته؛ كما انطلق أحمد زكي مع التيار نفسه، وبدأ مع والده في هالو شلبي، وظهر التعاون مع آخرين في مسرح التليفزيون.
ورغم كثافة العمل، ظل الأب حاضراً في أسرته، فكان خلال الإجازات يأخذهم إلى الإسكندرية ليشاهدوا مسرحياته ويستمتع بهم في الكواليس. يعود معروضاته في المساء إلى القاهرة ثم يعود في الفجر إلى الإسكندرية لاستئناف عمله على المسرح في الثامنة والنصف، فيظهر وهو ينام ساعتين فقط ليبدأ يوماً جديداً من العطاء، وتحسُّ العائلة بالاشتياق إليه.
في فترات الإجازة كان يأخذهم معه لمشاهدة مسرحيات أخرى ويشاركهم اللعب والحديث والحكايات، وكان كريمًا في الهدايا ويقضي معهم اليوم في غرفته بالكواليس كفسحةٍ من الحياة. أما في البيت فكان في مرحلتي المراهقة والإعدادية أباً آخر حازماً يلتزم بالمواعيد، فإذا كان لديه موعد في الساعة السابعة يجب أن يكون هناك في السادسة والخمسين دقيقة، ودوماً يقول: اذهب مبكراً عن الميعاد.
لكن رغم صرامته، كان قلبه طيباً ومليئاً بالحنان؛ فحين يرى طفلاً يبكي تذوب عيناه لأنه فقد والده صغيراً، وكان يردد لنا: لو طفل يبكي وليس مريضاً فأمه هي السبب. كما كان يحثنا على مشاركة زوجته أبسط حقوقها وأن نترك لها السيارة عندما يمرض أحد الأولاد أو يتأذى، ليذهب إلى الطبيب فوراً، وليكن هو في عمله بما يتطلبه التزامه من وسائل نقل. بهذه الروح ظل عبدالمنعم مدبولي حاضراً في ذاكرة أبنائه كفنانٍ قدّم الكوميديا بنظرة نقد، والمأساة بقلب الأب، وتعلمهم أن المحبة الحقيقية تقاس بتحمل المسؤولية وأن الحفاظ على الاسم أمانة.
أمل عبدالمنعم مدبولي.. وجه الأب الحنون ومرجعه الفني
وصفت أمل عبدالمنعم مدبولي والدها بأنه وجهٌ يشعّ بالأمان والحنان والقلب الكبير، فهو الأب والزوج المجهود الذي يعمل كثيراً ليجسر بين العلم والحياة، وهو مَن جسّد صورة الأب في مسلسل ابنائي الأعزاء شكراً وصوته في مدرسة الحفيد، وهو الأب الذي يبحث عن بناته بعد أن يكبرن ويتمنى أن يراهن في لا يا ابنتي العزيزة، وهو أيضاً الأب الحنون الذي يوازن بين العمل والأسرة في مسلسل أبنائي الأعزاء شكراً.
تؤكد أمل موهبته الفنية الفريدة في الجمع بين الكوميديا والتراجيديا، وتذكر أنه كتب وأخرج مسرحيات، كما أبدع في أداء أدوار مهمة مثل حسب الله أمام شادية في يومياته الفنية، وأنه ظلّ يعزف لذهن الجمهور أغنيات للأطفال مثل توت توت وتعيش بيننا. وتشدّد أن والده كان يبدع كاتباً ومخرجاً وممثلاً لا يُكرَّر، وأنه في الحياة المنزلية كان مثالاً للأب الحنون والمربّي المسؤول الذي يحافظ على القيم والأخلاق ويعتز باسمه.
تفتح أمل ثقتها في طفولتها وتذكر أن والدها كان يتيماً حين وفاة والده وهو في السادسة من عمره، وأن جدته التي ربت العائلة كانت صارمة وتعلّمته دروس الحياة من خلال مدرسين في البيت وتوجيهاتها القاسية لكنها حنونـة وتحرص دوماً على تربية أبنائها على مبادئ عالية. وتروي أن والدها كان يحفظ لنا ذلك التوازن بين عمله ومسؤولياته العائلية وأنه كان حريصاً دائماً على أن تتعلم بناته وتدرّس أبناؤه في مدارس حكومية ثم لغات، كما كان يصطحبهم معه في تصوير مسلسلات الشتاء عندما يكون في الإسكندرية أو خارجها.
كيمياء فنية مع فؤاد المهندس وقصة الشراكة
تروي أمل أن العلاقة الفنية التي جمعت والدها بفؤاد المهندس كانت مبنية على المحبة للفن، وأن المهندس كان يقول عن والدها إنه يعرف مفاتيح شخصيته، وأنه لم يهتم بمكان اسم مدبولي قبل أو بعد اسم المهندس، فالأهم عندهما هي رسالة العمل والهدف من المسرح إلى الجمهور. وتؤكد أن غيرة فنية بينهما لم تكن موجودة بل كانا نموذجاً للتعاون والانسجام، فالمسرحيات التي جمعتهما مثل أنا وهو وهي وحواء الساعة 12 شاهدت نجاحاً غير مسبوق.
ترد أمل أن والدها كان صديقاً حميماً لفؤاد المهندس، وتكشف عن موقف إنساني عندما كان المهندس يزور والده في العناية المركزة ويرى الطبيب أن الصورة الأخيرة قد اقتربت. وتصف كيف بكى المهندس عندما ودّعه والدها، وتؤكد أن العلاقة بينهما استمرت كذكرى خالدة في الوسط الفني.
الزوجة الصبورة رفيقة الدرب.. أُمّ عبدالمنعم ومدبولي
تحكي أمل عن والدتها بأنها ابنة بيت وربة منزل، فقد تزوجت من والدها وهي تكبره بخمسة عشر عاماً، لكنها تعلمت الرسم وتخرجت في كلية الفنون التطبيقية، وكانت لها دور كبير في توفير الاستقرار الأسري وتدبير شؤونه المادية ومذاكرات الأبناء وترتيب حياتهم. كانت أمينة في تربية الأبناء ومرافقة والدها في رحلاته خارج البلاد لتصوير أعماله، وصاحبة قلبٍ صبورٍ يحفظ أسرار الحياة ويؤمن لهم بيتاً مستقراً. أصيبت أمها بجلطة في المخ عام 2002، وتعرضت حياة الأسرة لصدمات عميقة، فكان أبوها حزيناً عليها ومهتماً بها حتى لحق به الموت بعد سنوات، وترك حزنها أثراً عميقاً في نفسه كما ترويه ابنتها.
تؤكد أمل أن أمها كانت شريكته في كل شيء، وأنها عندما تتحدث عن والدها ترى فيها نموذج الزوجة التي تقف بجانب زوجها وتدعمه وتسانده في كل خطوة، وتشارك في حفظ موارده وتربية أبنائه وتدبير شؤون المنزل وتوفير الراحة له، وأن وجودها كان عاملاً أساسياً في استقرار العائلة رغم أعباء الحياة الفنية. وتضيف أن أمها كانت تتذكر أحياناً أن والدها ما زال حيّاً في قلبها وتبكي عندما تفكر فيه، وتبقى ذكراه حاضرة في كل تفاصيل حياتهم.
إرث أبوي يتجاوز الشاشة والفن
يظل بابا عبده اسمًا يذكره الجمهور بالبهجة والكبرياء، بينما يُذكر أبناءه كقدوة في تحمل المسؤولية والثبات على القيم. فقد علمهم أن المحبة لا تقاس بالكلام وحده بل بمواصلة العمل وتربية الأبناء والالتزام بالأمانة واسم العائلة. وتركت حياة عبدالمنعم مدبولي في الأسرة حاضرةً كمرجعٍ إنساني وفني، يحيا في ضحكات الجمهور وفي قلوب أبنائه الذين يكبرون على قيمه ويستلهمون من هذا التراث نوراً يضيء دروبهم في الحياة والفن.



